تاريخ تونس منذ نشاة قرطاج الى ثورة 14 جانفي 2011
تاريخ تونس:
نشأت في تونس حضارة قديمة تمثلت في مدينة
قرطاج، التي تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد. أسسها قادة فينيقيون جاؤوا من مدينة
صور. نشطت
تجارة قرطاج تدريجيًا حتى تمكنت من السيطرة على البحر الأبيض المتوسط، وفي مطلع القرن الخامس قبل الميلاد
تمكن تجارها ومستكشفوها من الوصول إلى الشاطئ
الإفريقي حتى سيراليون. حققت قرطاج ثروات هائلة من
تجارتها الواسعة. كان لهذه المدينة مجلس وجمعية شعبية، ثم تركزت السلطة بعد ذلك
في أيدي القضاة وحاكمَيْن ينتخبان سنويًا. أدى التنافس بين هذين الحاكمين وتضارب
سياساتهما إلى ضعف قرطاج.
بسطت قرطاج سيطرتها على سردينيا ومالطة وجزر البليار
في القرن الخامس قبل الميلاد، كما حاولت السيطرة على صقلية، وذلك بعقد
تحالف مع الرومان وبعض المدن الإغريقية، ولكنها لم تفلح في السيطرة عليها بسبب
هزيمة قائدها هاميلكار (اسم شاع كثيرًا بين الأسر القرطاجية) أمام جلون في معركة هيمرا
عام 480ق.م. حاول هانيبال حفيد هاميلكار مرة أخرى السيطرة على صقلية إلا أن
سيراقوسة صدت القرطاجيين.
في القرن الثالث قبل الميلاد تمكنت قرطاج من السيطرة
على البحر المتوسط، مما أثار روما ضدها، واعتبرت ذلك تحديًا لها، فدارت بينهما
عدة حروب عُرفت بالحروب
البونية. في أول هذه الحروب فقدت قرطاج صقلية. وإثرها تعرضت
قرطاج لانقسام شديد داخل صفوف قواتها بسبب نشوب ثورة المرتزقة من الجنود
الذين كانت قرطاج تعتمد عليهم كثيرًا. تمكن هاميلكار من إخماد الثورة وعوَّض بلاده
عن فقد صقلية بالاستيلاء على أسبانيا، مما أثار مخاوف روما مرة أخرى، وأسهم في نشوب
الحرب البونية الثانية (218-202 ق.م) . على الرغم من مهارة هانيبال (القائد القرطاجي
المعروف) إلا أن عدم وصول الإمدادات إليه ـ بسبب انقسام قرطاج على نفسها ـ
أدى إلى هزيمة قوات قرطاج هزيمة ساحقة، وفقدت في هذه الحرب كل سفنها الحربية
تقريبًا، وممتلكاتها خارج إفريقيا، مما اضطرها إلى عقد صلح مع روما يقضي بدفع
غرامة مالية كبيرة.
استمرت تجارة قرطاج وتوسعت، فقويت شوكتها مرة أخرى،
وأخذت المخاوف تساور روما ثانية فنشبت الحرب البونية الثالثة (149-146 ق.م) التي
انتهت بالقضاء على قوة قرطاج تمامًا، وتدمير المدينة ذاتها. أعاد يوليوس قيصر بناء مدينة قرطاج مرة أخرى، وأصبحت
مركزًا مهمًا للإدارة الرومانية. وفي القرن الثالث الميلادي كانت قرطاجة أحد معاقل
النصرانية، وظلت كذلك حتى تمكن القائد الإسلامي ابن النعمان عام 79هـ، 698م من فتحها للإسلام.
الفتح الإسلامي لتونس
بدأت غزوات العرب المسلمين لفتح إفريقية وما يليها من
بلاد المغرب بحملة العبادلة التي قادها عبدالله بن أبي السرح سنة 25هـ،
645م، في عهد الخليفة الراشد عثمان ابن عفان. ثم تلتها حملة عقبة بن نافع الفهري
سنة 50هـ، 670م، وحملة زهير بن قيس البلوي سنة 69هـ، 688م. ولم يستقر للإسلام سلطان
بإفريقية إلا بحملة حسان بن النعمان الثانية سنة 84هـ، 703م، فقامت بها ولاية
مستقلة عن مصر جعلت قاعدتها مدينة القيروان، التي كان عقبة بن نافع قد أسسها سنة 50هـ،
وأعاد الوالي موسى بن نصير فتح بقية بلاد المغرب سنة 88هـ، 706م، ووطد دعائم الإسلام
فيها، ثم انطلق لفتح الأندلس سنة 92هـ، 710م. بيد أن السِّلم لم يستتب بتلك الولاية
طوال عهد الولاة إلى سنة 184هـ، 800م، غير أن ذلك لم يمنع بعضهم من تشييد حضارة ونشر دين وثقافة. ومن
مآثرهم بناء جامع الزيتونة بمدينة تونس سنة 114هـ، 732م، ورباط المنستير وسور طرابلس
الغرب سنة
180هـ، 796م، وفتح جزيرة صقلية. وقد مهدت تلك الاضطرابات لانقسام الولاية خلال القرن الثالث الهجري
(التاسع الميلادي) إلى أربع دول مختلفة فيما بينها مذهبيًا
وسياسيًا، وكلها متفقة على مناوأة الخلافة
العباسية ببغداد ما عدا دولة بني الأغلب. وقد تعاقبت منذئذ على إفريقية أسر حاكمة ودول، لكن ما
من دولة قويت بها إلا سعت لمد سلطانها لاستعادة وحدة بلاد المغرب.
دولة الأغالبة (184-296هـ،800-909م) :
أسس هذه الدولة
إبراهيم بن الأغلب. ولاه الخليفة هارون الرشيد
إفريقية سنة 184هـ، ثم استجاب لطلبه في الإمارة، وجعلها وراثية في نسله من بعده. فحكم
إفريقية من الأغالبة أحد عشر أميرًا فترة تزيد على القرن، تمتعوا خلالها باستقلال
واسع عن الخلافة العباسية ببغداد. بيد أن علاقتهم بجيرانهم الرسميين والأدارسة
والأمويين كان يغلب عليها الفتور والتوتر، لما ظل يحلم به أمراء بني الأغلب من
إعادة توحيد بلاد المغرب تحت راية العباسيين. ولو أن ذلك لم يمنع بقاء حركة التبادل
التجاري والثقافي قوية بين دويلات بلاد المغرب، كما لم يحل دون قيام تعاون بينها
في الأزمات.
وقد عرفت إفريقية في العهد الأغلبي فترات ازدهار وقوة،
وأصبحت من الأقاليم الإسلامية الكبرى التي أشعَّت بحضارتها على المغرب
العربي وجزر البحر المتوسط وأوروبا وجنوبي الصحراء الكبرى. خاصة في عهد إبراهيم
الأول (184-196هـ)، الذي أسس الدولة ووطد أركانها، وفي عهد ابنه زيادة الله الأول
(201-223هـ)، الذي وجه جيشًا بقيادة أسد بن الفرات سنة 212هـ لفتح جزيرة صقلية.
وفي عهد الأمير محمد الأول (226-242هـ)، الذي شن حملة
على مدينة روما نفسها سنة 232هـ، 846م، فاقتحمت عساكره أسوارها وعادت بغنائم وأسلاب كثيرة. وكذلك في عهد الأمير إبراهيم الثاني
(261-289هـ) الذي ثبَّت أقدام المسلمين بصقلية، وواصل
الفتوحات في جنوبي إيطاليا، وبنى مدينة رقادة وأسس
بها بيت الحكمة، على غرار بيت الحكمة ببغداد، تشجيعًا للحركة الفكرية والعلمية التي
كانت قائمة بجامع عقبة بن نافع بالقيروان وجامع الزيتونة بتونس، وأنجبت علماء
أمثال القاضي أسد بن الفرات والإمام سحنون بن سعيد. كما عرفت إفريقية فترات اضطراب
وضعف في عهد الأمير زيادة الله الثالث (290-296هـ)، مما سهل للشيعة الاستيلاء
على القيروان سنة 296هـ، 909م.
الدولة العبيدية الفاطمية (296-362هـ، 909-972م):
أول من تولى الحكم من الفاطميين بإفريقية هو عبيد الله الملقب
بالمهدي، وبه سميت الدولة العبيدية، وقد مهد له السبيل الداعية الشيعي
الإسماعيلي أبو عبدالله الصنعاني الذي نجح في استمالة قبيلة كتامة لدعوته، وأتى به إلى
القيروان حيث نصَّبه خليفة للمسلمين، ولقبه بأمير المؤمنين سنة 297هـ، 910م.
وبذلك كان عبيد الله المهدي (297-322هـ) أول من لقب بالخليفة. وقد بنى مدينة المهدية على
ساحل إفريقية ونقل إليها كرسي ملكه. وفي تلك الأثناء أرسل المهدي جيشًا
لغزو مصر سنة 307هـ، 919م، كما أرسل أسطوله إلى صقلية فأخضعها. وخلفه ابنه القائم
بأمر الله (222-234هـ)، فاعتنى بشأن الأسطول، وسير قوات إلى بلاد الروم فافتتحت مدنا
وقلاعًا، وغزت كورسيكا وساردينيا وغيرهما.
غير أن تمرد أبي يزيد مخلد بن كيداد الخارجي (صاحب
الحمار) الذي نشب سنة 326هـ، 938م كاد يقضي على الدولة الفاطمية. ولم يخمد ذلك التمرد إلا على يد الخليفة المنصور بالله (334-341هـ)،
وذلك بمساعدة قبيلتي كتامة وصنهاجة بقيادة زيري بن
مناد. وقد خلد المنصور بالله انتصاره ببناء مدينة
المنصورية واتخاذها عاصمة له سنة 337هـ، 948م. وتسلم الخلافة بعده ابنه المعز لدين الله (341-365هـ) والبلاد آمنة مطمئنة، فسير وزيره القائد
جوهرًا بجيش كثيف إلى فاس وسجلماسة، وانقادت له بلاد
المغرب كلها ما عدا سبتة، وجاءت الأنباء بموت
كافور الإخشيدي، فوجه المعز القائد جوهرًا إلى مصر، ففتحها سنة 358هـ واختط مدينة القاهرة
المعزِّية، وأقام الدعوة للمعز بمصر والشام والحجاز. وفي أواخر سنة 361هـ خرج
المعز من المنصورية إلى القاهرة، فدخلها في 5 رمضان 362هـ، وجعلها مقر ملكه
وملك الفاطميين إلى آخر أيامهم.
الدولة الصنهاجية (362-543هـ،973- 1148م):
ولي المعز لدين الله بلكين بن زيري (362- 373هـ) إمارة إفريقية
والمغرب ما عدا صقلية أواخر سنة 361هـ، اعترافًا بجميل قبيلته صنهاجة، فاختط بلكين عدة مدن منها الجزائر، وأخمد الحركات المناوئة، وتعاقب
على الإمارة أبناؤه وأحفاده من بعده متمسكين بالولاء
للخلافة الفاطمية بالقاهرة، ومن أشهرهم باديس بن
المنصور (386-406هـ)، الذي انفصل عنه عمه حماد سنة 405هـ، 1014م وأسس دولة مستقلة،
قاعدتها قلعة بني حماد بالمغرب الأوسط. وكذلك المعز بن باديس (406- 453هـ)، الذي ساد
الأمن في أيامه، فازدهرت البلاد وظهرت بها حركة أدبيةوفكرية راقية من أعلامها
الطبيب ابن الجزار والأديب الشاعر ابن رشيق.
في سنة 435هـ، 1043م، قام أهالي القيروان بانتفاضة ضد
الدولة الفاطمية، فاضطر ابن باديس لمجاراة الرأي العام فخلع طاعة الفاطميين
وجعل الخطبة للخلافة العباسية سنة 439هـ، 1047م فوجه إليه المستنصر الفاطمي أعراب
بني هلال وبني سليم، فغلبوه وسلَّم لهم القيروان، وانتقل إلى المهدية حيث توفي.
وخلفه ابنه تميم (453-501هـ) على ما بقي بيده وهو جزء يسير من ساحل إفريقية. أما بقية الإمارة فقد انقسمت، واستولى النورمان على صقلية
سنة 484هـ، 1091م، وعلى المهدية سنة 543هـ، 1148م،
فغادرها آخر الأمراء الصنهاجيين الحسن بن علي
(515-543هـ) إلى المغرب الأقصى مستنجدًا بعبد المؤمن بن علي.
الدولة الحفصية (626 - 981هـ ، 1229- 1573م):
الحفصيون فرع من الدولة الموحدية التي دخلت إفريقية تحت سلطانها سنة 555هـ، 1160م، على
يد عبد
المؤمن بن علي. وأول من تولى إمارة إفريقية من الحفصيين الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص (603-
618هـ) الذي نصبه الخليفة الموحدي الناصر واليًا على تونس
سنة 603هـ، 1207م. وأصبحت لعقبه من بعده، ومن
أشهرهم أبو زكرياء يحيى (626، 647هـ). تولى الإمارة وأَمْرُ الموحدين في تراجع، فأعلن استقلاله وجعل الخطبة لنفسه
سنة 626هـ، 1229م. قضى على الحركات المناوئة، واستولى على الجزائر، وبايعته تلمسان وسجلماسة وسبتة ومكناسة.
وخطب له بنو مرين في أول أمرهم بعد أن استولوا على مراكش،
وأتته الوفود من شرقي الأندلس مستنجدة، وخلفه
المستنصر (647-675هـ)، فذاع صيته وعظم شأنه، حتى أرسل له أمير مكة المكرمة وأهل الحجاز
بيعتهم بالخلافة سنة 657هـ، 1259م، إثر سقوط الدولة العباسية ببغداد.
وقد عظم شأن الدولة الحفصية في عهدي السلطانين أبي
زكريا والمستنصر، وأصبحت تونس من أهم مراكز الثقافة العربية، فاشتهر بها علماء أجلاء
منهم الرياضي القلصادي، والفلكي ابن القنفذ، والطبيب الصقلي، والفقيه ابن عرفة
،والجغرافي التيجاني، والمؤرخان الزركشي وابن خلدون. كما ارتبطت معظم الدول
الأوروبية معها بمعاهدات تجارية وقنصليات . بيد أن عوامل الضعف والتفكك بدأت
تعمل في تلك الدولة بعدهما، فانقسمت الدولة إلى إمارتين: واحدة بتونس وأخرى
ببجاية، وتعرضت البلاد إلى الغزو الخارجي. ثم مالبثت الدولة الحفصية أن انتعشت في عهود
السلاطين أبي العباس أحمد (772-796هـ) وأبي فارس عزوز (796-837هـ) وأبي عمر عثمان
(839-893هـ)، فمد أبو العباس نفوذه على كامل بلاد المغرب، وأخضع أبو فارس
تلك المناطق للسلطة الحفصية المباشرة بما فيها الأندلس، وتمكن أبو عمر عثمان من
المحافظة على تلك الوحدة. كما أنشأ أبو العباس أول قوة للجهاد البحري بإفريقية،
مالبثت أن تدعمت في عهدي خلفيْه، فجلب هذا النشاط للدولة عائدات كبيرة، لكنه تسبب في
ردود فعل العالم النصراني، التي كانت آثارها شديدة لما عادت الدولة الحفصية إلى الضعف
بعد وفاة السلطان أبي عمر عثمان. فقد تمرد عرفة الشابي وأسس إمارة منفصلة
بالقيروان، واحتل الأسبان بجاية سنة 915هـ، 1510م ثم طرابلس.
في هذه الظروف اتصل الأخوان عروج وخير الدين بالسلطان
أبي عبد الله محمد (899-932هـ)، واتخذا جزيرة جربة قاعدة لتحركاتهما ضد الأسبان
في البحر المتوسط. ولما
استولى خير الدين على الجزائر عاد إلى تونس، فاستولى عليها سنة 935هـ، 1529م، وخطب فيها لسليمان
القانوني. ففر السلطان الحسن الحفصي (932-942هـ)، مستنجدًا بملك الأسبان فثار السكان بمعية
الأمير أحمد بن الحسن، لكن الأسبان استولوا على المهدية
والمنستير وجربة وطرابلس في عهد السلطان أحمد
المذكور (942-980هـ)، فاستردها منهم القائد درغوث باشا سنة 958هـ، 1551م، ودخل القيروان
ونصب عليها حيدر باشا واليًا عثمانيًا. كما هجم والي الجزائر علي باشا على تونس،
وأخذ البيعة بها للسلطان سليم الثاني، فاستنجد أحمد ـ كأبيه ـ بالأسبان، واقتحموا
البلاد ثانية سنة 980هـ، 1572م. فحكم أخوه محمد (980- 981هـ) تحت الحماية الأسبانية، يقاسمه أمر الدولة حاكم
من قبل ملك أسبانيا. إلى أن أنقذ البلاد الفتحُ العثماني سنة 981هـ، 1573بقيادة
الوزير سنان باشا.
تونس ولاية عثمانية (981-1298هـ،
1573-1881م)
عُـيِّن سنان باشا على تونس واليًا برتبة باشا. فأبقى
بها حامية من أربعة آلاف جندي إنكشاري، يرأس كل مائة منهم داي ويرأس الدايات
أغا، ويتولى الجباية باي، وأنشأ بالقصبة ديوانًا لفصل قضايا الجند وتدبير شؤون الولاية
بمشاركة أعيان من الأهالي. لكن الإنكشارية ثاروا سنة 999هـ، 1591م، وقدموا دايا، فاستأثر عثمان داي
بالحكم سنة 1007هـ، 1598م، وتولى بعده يوسف داي ثم مراد داي، وفي عهديهما ورد على البلاد الأندلسيون لاجئين،
فاستعانوا بهم على تنمية البلاد وتقوية أسطولها. لكن أمر الداي أخذ في التراجع تدريجيًا،
وأصبح النفوذ والرئاسة بيد البايات إلى أن استقلوا بالأمر
تمامًا. وكان أول من تقدم منهم للولاية مراد باي
سنة 1022هـ، 1613م، وهو مؤسس أسرة البايات المراديين التي حكمت تونس إلى سنة 1114هـ،
1702م، وكان منها بايات مصلحون أمثال حمودة باشا (1041-1076هـ) وابنه مراد باي الثاني
(1076-1086هـ). لكن الصراع على السلطة بين أفراد الأسرة بعدهما واستعانة بعضهم
على بعض بدايات الجزائر جلب على البلاد الكوارث إلى أن قضى إبراهيم الشريف على آخر
بايات تلك الأسرة، وهو مراد أبوبالة (1110-1114هـ)، فقلد أهل الحل والعقد بتونس
حسين بن علي تركي أمر البلاد سنة 1117هـ، 1705م، وجاءه فرمان الولاية من السلطان.
فكان ذلك بدء تأسيس أسرة البايات الحسينيين التي حكمت البلاد التونسية إلى سنة
1376هـ، 1957م.
وقد بدأ الباي حسين بن علي (1117-1153هـ) عهده برد جند
الجزائر عن تونس وانتهى بمقتله على يد ابن أخيه علي باشا سنة 1153هـ، 1740م،
إثر تمرد الأخير واستعانته بداي الجزائر، فاستمرت الفتنة بينهما ثلاث عشرة سنة.
وتميز عهد علي باشا (1147-1169هـ) بتشريد الجنوبيين، الذين كانوا يمارسون صيد
المرجان بمرسى طبرقة، وتخريبه قرية تامركرت (كاب نيقرو)، التي كانت بها
مراكز تجارية لبعض الشركات الفرنسية، ثم بتمرد ابنه الأكبر يونس عليه سنة 1165هـ،
1752م، وكانت نهاية علي باشا على أيدي محمد الرشيد وعلي ابني عمه الحسين، اللذين
استعانا عليه بداي الجزائر أيضًا.
يعتبر أحمد باشا باي (1253-1271هـ) من البايات
المصلحين في تونس؛ فقد أبطل الرق والاتجار به في البلاد التونسية سنة 1262هـ، 1846م،
ونظم التعليم بجامع الزيتونة، وعمر خزائنه بالكتب، وأحل اللغة العربية محل التركية
في مخاطبة الدولة العثمانية. كما تأثر بما كان جاريًا في زمانه من إصلاحات بالآستانة وبمصر، واندفع بشعور
الخطر الاستعماري،
فتوسع في ترتيب العساكر النظامية، وأنشأ مدرسة حربية عصرية لتخريج الضباط، كما توسع في
التسليح وإحداث التجهيزات والإنشاءات الحربية برية وبحرية،
وساعد بدوره الدولة العثمانية في حرب القرم سنة
1270هـ، 1854م، فكانت هذه الإصلاحات وغيرها فوق طاقة البلاد، وزاد الضرر بإنشاء الباي
مدينة المحمدية سنة 1259هـ، 1843م، لتكون مقرًا لحكومته، ولكنها أُهملت بعده فخربت. كما أهملت وخربت معظم إنشاءات أحمد باي وصرف
العساكر، فلم تجن البلاد من ذلك إلا الوبال والإفلاس وزيادة
النفوذ الأجنبي عامة والفرنسي خاصة. فأُحدثت في
عهد محمد باي الثاني (1271-1276هـ) ضريبة المجبى سنة 1272هـ، 1856م، لتلافي العجز في الخزينة، وأدخل هذا الباي
عدة إصلاحات
منها إصداره عهد الأمان سنة 1274هـ، 1857م، ليجعل تونس دولة ملكية دستورية، وقد سوَّى ذلك الدستور
الأجانب بأهل البلاد في كثير من الحقوق. كما أحدث مجلسًا
بلديًا بتونس، وأدخل الطباعة العربية، فصدرت جريدة
الرائد التونسي. وقد أحيا خليفته محمد الصادق باي (1276-1299هـ) العمل بعهد الأمان،
فأنشأ مجلس شورى سنة 1277هـ، 1860م، لكنه ألقى مقاليد الدولة لمقربيه فكان كل همهم الإثراء على حسابها. الأمر الذي زاد من المصاعب
المالية، فاضطرت الدولة للاقتراض من الأوروبيين.
لما اشتدت الأزمة ضاعف الباي المجبى سنة 1280هـ،
1863م، فكان ذلك سببًا مباشرًا لانتفاضة القبائل بقيادة علي بن غذاهم، فعلق الباي
العمل بالدستور، وتصدى للانتفاضة بالقمع والغدر وإنزال العقوبات الجماعية، فكان من آثار
ذلك أن انتشرت المجاعة والأوبئة، مما أفنى عددًا كبيرًا من السكان، وجعل
البلاد تزداد تورطًا في الاقتراض الأجنبي حتى أعلنت عجزها المالي. وعندما شكل الوزير
المباشر خير الدين اللجنة المالية المختلطة لتتولى قبض مداخيل المملكة سنة
1286هـ، 1869م، كان مجمل ما على تونس 125 مليون فرنك ذهبًا لأجانب مختلفين. وتعهدت
اللجنة بدفع الفوائد لمستحقيها في كل عام، لكن ذلك كان معناه فقدان البلاد لسيادتها
المالية.
حاول خير الدين، عندما عينه الباي وزيرًا أكبر محل
مصطفى خزندار سنة 1290هـ، 1873م، تدارك الأمر بإدخال عدد من الإصلاحات، منها بعث أول مجلس صحي لمراقبة الأمراض الوبائية، وإحداث
إدارة الأوقاف، كما أصدر أول قانون ينظم الفلاحة، وعمل
على إصلاح التعليم وتحديثه، فلما لم يكن الجو
مُهيَّأً بجامع الزيتونة لتقبل الإصلاح اللازم، أسس المدرسة الصادقية سنة 1293هـ،
1876م لتخريج الإطارات الضرورية للدولة. بيد أن هذه الجهود الإصلاحية لم ترُق لمن لم
تكن لهم مصلحة فيها أمثال الوزير مصطفى بن اسماعيل وجماعته، فحاكوا الدسائس حتى
اضطر خير الدين للتخلي سنة 1294هـ، 1877م، ثم الرحيل إلى الآستانة (إسطنبول)، وتولى بعده ابن اسماعيل
الوزارة الكبرى، برغم جهله وعدم كفاءته وتواطئه مع قناصل الدول وخاصة قنصل فرنسا
روسطان، فكثرت المشكلات وتعقدت حتى أصبحت تونس مهيأة للاحتلال الأجنبي، الذي بدأ
يتهددها بالفعل منذ احتلال فرنسا لجارتها الجزائر سنة 1246هـ، 1830م، ووقعت تونس ضمن
دائرة التنافس
الاستعماري بين فرنسا وإيطاليا وإنجلترا. وقد بُحثت مسألة هذا التنافس في مؤتمر برلين سنة 1295هـ،
1878م، فتنازلت بريطانيا لفرنسا عن تونس، لكن إيطاليا لم
تتخل عنها حتى بعد وقوعها تحت الاحتلال الفرنسي.
تونس محمية فرنسية(1298 - 1375هـ، 1881 - 1956م)
انتهزت فرنسا فرصة وقوع مناوشات على الحدود بين
قبيلتين تونسية وجزائرية، وغزت البلاد التونسية من شمالها الغربي في 24/5/1298هـ
(24/4/1881م)، بدعوى تأديب قبيلة خمير المعتدية، وفَرْض أمن حدودها الجزائرية. فسيرت
جيشًا بريًا احتل مدينة الكاف، وواصل سيره شرقًا باتجاه تونس العاصمة، في الوقت الذي
احتلت فيه قوة بحرية فرنسية مدينة بنزرت، واتجهت جنوبًا نحو العاصمة أيضًا، وفي
12جمادى الآخرة (12مارس) كانت القوتان تحاصران قصر الباي محمد الصادق بضاحية باردو،
حين دخل عليه الجنرال بريار، القائد العام للحملة الفرنسية، بمعية القنصل روسطان،
وقدم له نص معاهدة جاهزًا ليوقعه. وقد قضت هذه المعاهدة بوضع تونس تحت الحماية
الفرنسية، وأبقت على هيكل الدولة والعائلة المالكة بها، لكنها سلبت منها سيادتها
الخارجية، ونصبت لدى الباي وزيرًا مفوضًا ومقيمًا عامًا فرنسيًا للإشراف على
تطبيق بنود المعاهدة، والحقيقة أن الحكومة الفرنسية لم تعمل آنذاك على إلحاق تونس
بترابها مثلما فعلت بالجزائر سنة 1246هـ، 1830م، لأن ظروف فرنسا الداخلية والدولية لم تكن تسمح لها بذلك، كما أنها سعت لتجنب انتفاضات كالتي
حصلت لها بالجزائر، خاصة وأن حركة المقاومة التونسية كانت
قد بدأت فعلاً.
المقاومة التونسية
بدأت حركة المقاومة التونسية للغزو
الفرنسي منذ بداية دخول عساكره من الجزائر، فحدثت
بين القبائل وجيش الغزو عدة معارك. وقد خاضت تلك القبائل المقاومة منفردة أولاً،
ثم دعت لتنسيق جهودها وتجميع قواها ضد العدو، وساهم فيها عديد من الأعيان الذين
كانوا يشغلون مناصب مرموقة في جهاز الدولة، وخرجوا عن طاعة الباي رافضين أوامره
الداعية إلى التزام الهدوء والتمسك بصداقة فرنسا. في حين تواطأ جيش الباي مع
الاستعمار بأشكال متنوعة، مما اضطر المقاومين لخوض معارك ضده أيضًا، وجعل الكثير من
الجنود والضباط الصغار يفرون من صفوفه، ويلتحقون بالمقاومة الشعبية، كما شارك في
المقاومة بعض المدن مثل صفاقس وقابس، اللتين لم تستسلما إلا بعد دكهما من قبل
البوارج الحربية الفرنسية بقنابلها أيامًا وليالي من البحر. وقد اشتهر من قادة المقاومة
علي بن خليفة النفاتي (والي سابق للباي) الذي عد رأس الحركة، وعلي بن عمارة
الجلاصي، والحاج كمون الصفاقسي، والضابطان سعد البناني، وساسي سويلم، بيد أن هذه
المقاومة لم تستمر طويلاً، حيث اشتدت وطأة الهزائم العسكرية على المقاومين، نتيجة عدم
التكافؤ في التسليح بينهم وبين الجيش الفرنسي الغازي. خاصة وأن القبائل التونسية
كانت قد أنهكتها سياسة البايات فيما قبل سنة 1298هـ، تلك السياسة القهرية
التي استنزفت قواها المادية، وكسرت شوكتها الحربية بعد انتفاضة 1280هـ، 1864م.
الأمر الذي جعل أكثر هذه القبائل تتفق على الهجرة إلى طرابلس الغرب في ذي القعدة
1298هـ، أكتوبر 1881م، وقد شملت هجرتها قرابة عُشر سكان البلاد آنذاك (من 120
إلى140ألف مهاجر) استقر معظمهم في مناطق الغرب الطرابلسي في انتظار إعانة عسكرية من
الدولة العثمانية للعودة إلى المقاومة، لكن هذه الإعانة لم تأت.
نظم المهاجرون من مواقع تجمعهم غارات عبر الحدود على
الفرنسيين ومن تواطأ معهم من التونسيين، وقاد معظمها علي بن ضو. إلا أن شدة
السلطات العثمانية بطرابلس على المهاجرين، وتردي أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية،
والحرب النفسية التي سلطتها عليهم سلطات الحماية الفرنسية، كل تلك العوامل دفعتهم
إلى اليأس والعودة تدريجيًا على دفعات إلى البلاد التونسية، وقد زاد عدد العائدين
بشكل ملحوظ بعد وفاة رمز المقاومة علي بن خليفة النفاتي في 26/1/1302هـ،
16/11/1884م.
السلطة الفرنسية المطلقة على تونس:
عملت فرنسا على توطيد أركان حمايتها على تونس، ذلك أن الباي الذي احتفظ بعرشه سنة
1298هـ، سرعان ما وجد نفسه يفقد سلطاته الفعلية تدريجيًا لصالح المقيم العام
الفرنسي وغيره من الموظفين الفرنسيين، الذين أخذ عددهم يزداد في الإدارة
التونسية. وقد وقع تجاوز معاهدة باردو بسرعة، ففي 27/7/1300هـ، 3/6/1883م أجبر المقيم العام
كامبون علي باي (1299-1324هـ) على توقيع معاهدة جديدة عرفت بمعاهدة المرسى. وقد التزم فيها الباي ـ دون
تحَفُّظ ـ بقبول الإصلاحات الإدارية والقضائية والمالية التي ترى الحكومة الفرنسية
ضرورة إدخالها
بتونس. الأمر الذي أفقده ما أبقته له معاهدة باردو من سلطات، ليصبح مجرد صورة تضفي الشرعية على
الحماية الفرنسية إزاء الرأي العام التونسي والفرنسي، وأمام
العالم. وقد سمح استسلام الباي لسلطات الحماية على
هذا النحو بوضع يدها على الإدارة المركزية بالعاصمة والإدارات المحلية خارجها، بحيث
انفصلت الحكومة عن الباي، وأصبحت تحت سلطة المقيم العام، وباتت تتألف من سبعة وزراء
ومديرين بينهم اثنان تونسيان فقط منهما الوزير الأكبر، وقد وُضعا تحت نظر الكاتب العام
للحكومة، وهو موظف سام فرنسي وعضو في الحكومة، كما عينت سلطات الحماية مراقبين
مدنيين فرنسيين لمراقبة الموظفين التونسيين بالجهات، في حين اعتبرت أراضي أقصى الجنوب
التونسي الصحراوية أراضي عسكرية، ووضعتها تحت مراقبة أكثر صرامة.
حافظت سلطات الحماية على سلطة الباي التشريعية كما
كانت قبل سنة 1298هـ، 1881م، من حيث الشكل، فكانت تدير البلاد بوساطة الأوامر التي
تصدر باسمه، مما أطلق يديها وجعلها تستثني الشؤون التونسية من مراقبة البرلمان
الفرنسي، وسنة 1314هـ، 1896م أحدثت مجلسًا استشاريًا بتونس، لكن العنصر التونسي لم
يدخله إلا سنة 1340هـ، 1921م كأقلية من 16عضوًا، يعينهم المقيم العام إلى جانب 52
عضوًا فرنسيًا منتخبين على دورتين، وقد وُسِّع هذا المجلس وسمي بالمجلس الكبير
سنة 1340هـ، 1922م، لكن صلاحياته ظلت استشارية، وتنحصر في المشاريع المالية
والمسائل ذات الطابع الجبائي. وبالتالي فقد كانت السلطة التشريعية الحقيقية بيد المقيم العام وبأيدي
مساعديه الذين كانت لقراراتهم صفة القانون.
لم يكن للباي من نفوذ سوى ختم الأوامر التي تتضمن تلك
القرارت، وتعيين الموظفين التونسيين الذين كانوا يختارونهم بدورهم. أما بخصوص
القضاء، فقد وُضعت العدلية التونسية، سواء كانت دينية أو مدنية، تحت إشراف موظف
سام فرنسي هو مدير المصالح القضائية. ورغم أن سلطات الحماية لم تمس المحاكم
الشرعية مباشرة، إلا أنها هيمنت على المحاكم المدنية، اعتمادًا على ما كان للباي من
سلطة في تنفيذ القوانين التي يصدرها، والنظر بالتالي في النزاعات التي كانت تنشأ
بين رعاياه، وكان تداخل السلطات واجتماعها بيد إدارة الحماية على نحو ما تقدم مدخلاً
لتجاوزات لا حصر لها في حق التونسيين. الأمر الذي جعل المقيم العام فلاندان نفسه
يلاحظ، عند زيارة فجائية قام بها إلى السجن المدني بمدينة تونس سنة 1337هـ، 1919م،
أن العديد من التونسيين مقيمون لمدد تصل إلى شهور وسنوات، دون أن توجه إلى
بعضهم تهم محددة أو يجرى مع بعضهم الآخر أي تحقيق، وأن عددًا كبيرًا منهم أودع
السجن بأمر من قسم الدولة ووقع نسيانه.
ومما يزيد في خطورة هذه الأوضاع، أن فرص التونسيين في
الدفاع عن أنفسهم بطرق قانونية، ضد تجاوزات إدارة الحماية الفرنسية، كانت
ضئيلة جدًا؛ لأن الحريات الأساسية المعترف بها للتونسيين كانت محدودة جدًا.
استيلاء فرنسا على الأرض الزراعية التونسية:
زادت الفوارق بفعل السياسة الاستعمارية الاستيطانية التي سلكتها فرنسا في
تونس. ذلك أن سلطات الحماية كانت قد اقتصرت فيما بين سنتي 1298 و1309هـ،1881
و1892م على فتح البلاد التونسية للرأسماليين الفرنسيين، ضامنة لهم أمنًا تامًا وإدارة
حسنة وتطورًا كافيًا لوسائل المواصلات في إطار ما سمي بالاستعمار الخاص، مما جعل
مساحة الأراضي الزراعية التي كانت بأيدي بعض الفرنسيين تزداد من قرابة 114 ألف
هكتار قبيل سنة 1298هـ إلى 443 ألف هكتار سنة 1309هـ، ومعظمها على شكل ملكيات واسعة
في أكثر المناطق خصوبة ومياهًا من شمالي البلاد. في حين سلكت تلك السلطات بداية من
سنة 1310هـ، سياسة استعمار رسمي دون التفريط في الاستعمار الخاص، وهي سياسة قامت على
مبدأ تركيز أكثر ما يمكن من الأراضي العامة وشبه العامة (كأراضي العروش، والغابات
والأوقاف) بيد الدولة تنتقل بعد ذلك لرعايا فرنسيين بأثمان بخسة مع تسهيلات في
الدفع، بهدف تركيز جالية فرنسية مهمة في تونس من شأنها أن تدحض الادعاءات الإيطالية
القائمة على وجود جالية إيطالية لا تكف عن النماء منذ سنة 1298هـ.
وكان من نتائج هذه السياسة أن انتقل ما يقرب من مليون
هكتار من أحسن الأراضي التونسية من أيدي التونسيين إلى الأجانب، عند قيام
الحرب العالمية الأولى سنة 1332هـ، 1914م فقط. وبذلك هيمنت بضع مئات من المستعمرين الأوروبيين على الزراعة التونسية التي تمثل القطاع
الاقتصادي الأهم بالنسبة للسكان، مما أدى إلى تدهور عموم
القطاعات الاقتصادية الأهلية التي لها علاقة
مباشرة أو غير مباشرة بالزراعة، مثل: تربية الماشية والصناعات التقليدية والتجارة الوطنية. وهو ما تسبب في انفجار انتفاضة بمنطقة القصرين
بالوسط الغربي التونسي سنة 1324هـ، 1906م، قامت بها عروش من
قبيلة الفراشيش تحت تأثير ما أصابها من ضيق شديد
في العيش وهوان على أيدي المستعمرين الذين استحوذوا على أراضيها. فكان مصير
المنتفضين التقتيل وصدور الأحكام بالإعدام والأشغال الشاقة والسجن وإبعاد بعض المحاكمين
إلى جزر كيان الفرنسية بأمريكا الجنوبية.
وتوغل الاستعمار في كل إنتاج محلي واستأثر به، كما
تزايدت نسبة الموظفين من الفرنسيين في مصالح الدولة التونسية حتى بلغ عددهم عند
قيام الحرب العالمية الأولى أكثر من عشرين ألفًا، بينما كان عدد الموظفين
التونسيين لا يتجاوز خمسة آلاف، معظمهم يشغل أقل الوظائف رتبةً ودخلاً. وقد عمدت سلطات
الحماية إلى رفع مرتبات الموظفين الفرنسيين فيما بعد بنسبة الثلث تحريضًا
للفرنسيين على الهجرة إلى تونس والاستقرار بها، وكذلك إغراء لبقية عناصر السكان على
كسب الجنسية الفرنسية، أما في مجال التعليم، فقد أحدثت السلطات إدارة العلوم
والمعارف، وجعلت عليها مديرًا فرنسيًا، فوجهت هذه الإدارة جل اهتمامها لإنشاء مدارس
لتعليم أبناء الفرنسيين، في حين بقي معظم الأطفال التونسيين محرومين من التعليم،
والتحقت أقلية منهم بالمدارس الفرنسية العربية التي قصدت إدارة العلوم والمعارف
بتأسيسها نشر اللغة الفرنسية بين السكان. وفي هذا الاتجاه حولت المدرسة الصادقية إلى
مجرد مدرسة لتخريج المترجمين اللازمين للإدارة الاستعمارية. وعملت الإدارة ما في
وسعها للإبقاء على حالة الجمود التي كان عليها التعليم العربي القائم بالكتاتيب وجامع
الزيتونة، فقمعت كل الحركات التي قام بها الطلبة الزيتونيون من أجل إصلاح تعليمهم
وتحديثه، لكن ذلك لم يحل دون دخول عدد قليل من التونسيين المدارس الفرنسية وحصولهم
على تعليم عال، وتأسيس مدارس ابتدائية أهلية جديدة عرفت بالمدارس القرآنية كان لها
دور في تعليم آلاف من أبناء التونسيين، ووصل الزيتونيون سنة 1370هـ، 1951م إلى
إصلاح تعليمهم بإنشاء شعبة عصرية تتضمن برامجها العلوم واللغات.
الحركة الوطنية التونسية
كانت أولى بوادر الحركة الوطنية التونسية حركة أعيان
العاصمة، التي تزعمها الشيخ محمد السنوسي سنة 1302هـ، 1885م، وتمثلت في تقديم
عريضة إلى علي الباي تضمنت اعتراضات على جملة من قوانين وإجراءات إدارة الحماية،
نتج عنها نفي الشيخين محمد السنوسي وأحمد الورتاني خارج العاصمة، وعقاب كل
الموقعين على العريضة. وقد لقيت هذه الحركة صدى واسعًا في مجلة
العروة الوثقى
للشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، لما كان لهذين
الرجلين من علاقات بالنخبة المثقفة التونسية آنذاك. فقد زار
الشيخ محمد عبده تونس مرتين، وكان لما تنشره مجلة العروة الوثقى ومجلة
المنار
لصاحبها رشيد رضا من بعدها تأثير كبير بين تلك
النخبة والجيل الذي تلاها من التونسيين.
أصدر فريق من المثقفين التونسيين جريدة أسبوعية سنة
1305هـ، 1888م، سموها الحاضرة، وكان
ذلك الفريق مؤلفًا من صادقيين أمثال علي بوشوشة (صاحب
الجريدة) والبشير صفر وزيتونيين مجددين أمثال
الشيخين محمد السنوسي وسالم بوحاجب، وجميعهم من رجال الوزير خير الدين، وقد التزموا
بالدفاع عن مصالح التونسيين المضمونة بموجب معاهدة الحماية، وقد أفادت هذه الجريدة
من تكوين رأي عام تونسي، بما كانت تورده من أخبار داخلية وخارجية وانتقادات لبعض
تجاوزات الإدارة الاستعمارية، وذلك في نطاق ما كان يؤمن به فريق الجريدة من ضرورة
إيقاظ التونسيين من سباتهم، وتعريفهم بالأفكار الحديثة، ليقتبسوا من التجربة
الأوروبية كل ما هو إيجابي، ويسلكوا طريق التقدم القائم على العلوم، وهو عين ما نادى
به خير الدين التونسي في كتابه أقوم المسالك، وقد اصطدمت أفكارهم بمقاومة المحافظين من الزيتونيين،
الأمر الذي دفعهم إلى تأسيس
جمعية الخلدونية
سنة 1314هـ، 1896م. وتلا ذلك
تأسيس جمعية قدماء تلامذة المدرسة الصادقية سنة
1323هـ، 1905م.
قامت هاتان المؤسستان بدور بارز في تنمية الشعور
الوطني، ونشر مبادئ الجامعة الإسلامية بين روادهما، فمهدا بذلك السبيل لظهور حركة الشباب التونسي، أوما عرف بحركة تونس الفتاة. تلك الحركة التي أصدرت سنة 1325هـ، 1907م جريدة أسبوعية فرنسية اللسان تعبر
عن آرائها ومطالبها اسمتها التونسي، وجل المكونين للحركة كانوا من
خريجي المدرسة الصادقية ذوي الثقافة المزدوجة المتشبعين
بأفكار الثورة الفرنسية، ومن أبرزهم علي باش حامبة
وأخوه محمد وحسن قلاتي وعبد الجليل الزواش. فلما انضم إلى الحركة العنصر الزيتوني،
المتأثر بفكر النهضة العربية الإسلامية، أمثال الشيخين محمد السنوسي وعبد العزيز
الثعالبي صدر للجريدة سنة 1327هـ، 1909م ملحق باللغة العربية كان يشرف على تحريره الشيخ الثعالبي، وقد كانت المطالبة بسياسة المشاركة
والمساواة بين التونسيين والفرنسيين هي المحور الذي دارت
عليه كتابات هذه الجريدة، ورغم ذلك فقد تعرضت
لحملة شعواء من قبل ممثلي الجالية الفرنسية وصحفهم. لكن الحركة مالبثت أن تطورت بعد
حادثتي الجلاز والترام.
ففي سنة 1330هـ، 1911م هاجمت إيطاليا طرابلس الغرب،
مما أثار شعور التونسيين، وأصبحت تونس ممرًا سريًا للضباط والمتطوعين العثمانيين
القادمين من أوروبا إلى طرابلس. في هذه الظروف أعلنت بلدية مدينة تونس قرارها
بتسجيل مقبرة الجلاز الإسلامية، وكان ذلك معناه أنها ستصادرها. فتجمعت
الجماهير بالمقبرة في اليوم المحدد لعملية المسح (19/12/1329هـ الموافق 7/11/
1911م). ولم يمنع الإعلان عن تراجع البلدية عن قرارها من وقوع اشتباكات دموية سقط
فيها عشرات التونسيين بين شهيد وجريح، مع ثمانية قتلى بين فرنسيين وإيطاليين، وقد
أعلنت السلطات الاستعمارية على إثر ذلك حالة الحصار بالمدينة، ومنعت الصحف العربية من
الصدور، ماعدا صحيفة الزهرة. كما أوقفت المئات من السكان، وقدمت منهم 73 إلى المحكمة الجنائية الفرنسية، فأصدرت أحكامها
بإعدام سبعة، وبسجن أغلبية الباقين مددًا مختلفة، وقد
نُفِّذَ الإعدام في اثنين هما القطاري والجرجار.
في الوقت الذي كانت فيه الأعصاب مشدودة ومحاكمة
المتهمين في حوادث الجلاز مازالت دائرة، دهس إيطالي من سائقي الترام بالعاصمة طفلاً
عربيًا يوم 2/3/1331هـ، 9/2/1912م، فانتشرت دعوة بين السكان للامتناع عن ركوب عربات
الترام حتى تفصل الشركة، وهي فرنسية، كافة موظفيها الإيطاليين، ومالبث
أن دخل موظفو وعمال تلك الشركة من العرب في إضراب عن العمل، على أساس أنها
تمارس معهم سياسة تمييز عنصري فيما يخص الأجور والترقيات. وبدأت حركة المقاطعة منظمة
بشكل أزعج السلطة، وأعطاها بعدًا سياسيًا، فاتهمت قادة حركة الشباب التونسي
بتسييرها. وزاد الوضع تأزمًا، بعد عشرين يومًا من المقاطعة، بانتشار خبر مفاده أن فرنسا
تسعى للضغط على الدولة العثمانية من أجل تسليم طرابلس لإيطاليا، ولما فشلت كل
جهود السلطة لإنهاء المقاطعة، اعتقلت سبعة من قادة حركة الشباب التونسي،
بينهم علي باش حامبة والشيخ عبدالعزيز الثعالبي، وأبعدتهم خارج البلاد. كما أوقفت
جريدتهم ونظمت حملة إرهاب واعتقالات واسعة بين السكان.
الحرب العالمية الأولى وما بعدها:
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وسَّعت فرنسا حالة الحصار لتشمل كامل
البلاد التونسية، وزجَّت بما يزيد عن 65 ألفًا من الشباب التونسيين في أتون معاركها
بأوروبا، فقتل منهم نحو 12 ألفًا وأصيب أكثر من ذلك العدد بجروح وعاهات. وقد شهدت
البلاد في سني الحرب حركة تعاطف شعبي مع الخلافة العثمانية التي دخلت الحرب إلى
جانب دول الوسط، أسهم فيها الزيتونيون، وقابلتها السلطات العسكرية الفرنسية
بالاعتقالات، كما نشط علي باش حامبة والشيخان صالح الشريف وإسماعيل الصفايحي في
إسطنبول، فأسسوا مع المهاجرين الجزائريين والطرابلسية لجنة لتحرير المغرب العربي سنة
1334هـ/ 1916م، وأسس محمد باش حامبة في نفس السنة فرعًا لها بسويسرا، وأصدر مجلة المغرب للدفاع عن قضية تونس والجزائر. ثم
أسست مجموعة إسطنبول هيئة أصبحت تعمل لتنظيم وتدريب أسارى
المغاربة في ألمانيا وتركيا، ضمن فرقة لترسل عن
طريق الغواصات إلى طرابلس، من أجل تحرير بلاد المغرب العربي.
وفي نفس السياق كانت قد اندلعت بالفعل بالجنوب التونسي
سنة 1333هـ، 1915م انتفاضة مسلحة قادها سعد بن عبد اللطيف الدبابي،
التحمت مع حركة المقاومة الطرابلسية بقيادة خليفة بن عسكر النالوتي في معارك
مشتركة ضد الفرنسيين والإيطاليين. مما جعل فرنسا تعتبرها جبهة من جبهات
الحرب الدائرة آنذاك، وتلجأ إلى أساليب حرب الإبادة (قصف جوي، غازات سامة)، وقد استمرت
الانتفاضة رغم ذلك في شكل حرب عصابات إلى سنة 1337هـ، 1918م.
ولما انتهت الحرب أرسل الوطنيون التونسيون الشيخ عبد
العزيز الثعالبي إلى باريس سنة 1337هـ، 1919م لعرض القضية التونسية على مؤتمر
الصلح، مثل غيره من زعماء الشرق. وفي باريس اتصل الثعالبي، بمعية المحامي أحمد السقا، بالأحزاب الفرنسية ونشر
كتاب تونس الشهيدة، الذي حمل الاستعمار الفرنسي مسؤولية حالة البؤس
والفقر التي آل إليها الشعب التونسي، وأبرز مطالب التونسيين.
كما أرسل الثعالبي إلى من أوفدوه في تونس يطلب منهم
تأسيس حزب سياسي، كانوا قد بدأوا النقاش بخصوصه قبل ذلك. فقدَّم وفد من أعيان
البلاد إلى محمد الناصر باي (1324-1340هـ) لائحة مطالب تقوم على أساس إحياء دستور سنة
1274هـ، 1857م، ومشاركة التونسيين بنصيب عادل من خيرات بلادهم دون التعرض
للاستقلال، كما قدَّم وفد آخر اللائحة إلى المقيم العام الفرنسي. وعندها ألقت
السلطات الفرنسية القبض على الشيخ الثعالبي وأرسلته إلى تونس على ذمة المحكمة العسكرية،
فأودع السجن العسكري بتهمة التآمر على أمن الدولة. وأُعلن عن تأسيس الحزب الحر الدستوري
التونسي سنة 1338هـ،1920م فترأسه الشيخ الثعالبي، رغم تحفظه على المطالب المعتدلة التي أعلنها برنامجه، نظرًا لكون
الراديكاليين في الحزب لا يمثلون أغلبية.
وعندما أصدر المقيم العام لوسيان سان برنامجه للإصلاح
الإداري سنة 1340هـ، 1922م، رفضه الحزب، لكن بعض أعضائه قبل ذلك البرنامج. وتعرض الحزب لأول تصدع نتج عنه ظهور ما عرف بحزب الإصلاح برئاسة حسن قلاتي. ثم لما
شدد المقيم العام على الحزب الدستوري ضاق المعتدلون بنشاط الشيخ وجماعته
من الراديكاليين، فأوعزوا إليه بمغادرة البلاد للتعريف بالقضية التونسية،
فغادرها إلى المشرق العربي سنة 1341هـ، 1923م، ولم يعد إلا في 1356هـ،1937م. ولولا أنصار الشيخ، ومعظمهم من الزيتونيين، لما استمر نشاط
الحزب في غيابه. ومن هؤلاء محي الدين القليبي وأحمد
توفيق المدني والطاهر الحداد وأحمد الدرعي.
وقد ترأس الأول الحزب، وترأس الثاني لجنة الخلافة
بتونس، وساهم الآخران في تأسيس الحركة النقابية التونسية الأولى مع محمد علي الحامي
سنة 1343هـ، 1924-1925م. لكن جامعة عموم العمال التونسيين التي تشكلت آنذاك، سرعان
ما حلتها السلطة الاستعمارية ونفت قادتها. ورغم ذلك اقتصر نشاط الحزب الدستوري على
تنظيم الاجتماعات في القاعات المغلقة والحملات الصحفية في المناسبات، مثل فتح باب
التجنس للتونسيين سنة 1242هـ، 1826م، وإقامة تمثال لكبير المنصِّرين الأسقف لافيجري في مواجهة الطريق المؤدي
إلى جامع
الزيتونة سنة 1343هـ، 1925م. وكذلك إرسال الوفود إلى باريس لتقديم العرائض للمسؤولين الفرنسيين.
وفي حين كان هؤلاء لا يبدون اهتمامًا بهذا النضال
السلمي، كانت السلطات الاستعمارية بتونس تخدع الدستوريين، وتضيق على عناصرهم
النشيطة لعزلها عن الجماهير.
وفي سنة 1348هـ، 1929م احتفلت السلطات الاستعمارية
بمناسبة مرور خمسين سنة على احتلال البلاد، وقام رئيس الجمهورية دوميرغ بزيارة
لتونس. كما عقد مؤتمرًا كنسيًا بضاحية قرطاج (حيث قبر لويس التاسع، قائد الحملة
الصليبية الثامنة) حضره قساوسة من مختلف أرجاء العالم، وأعطي مظهر حملة صليبية جديدة.
وقد حُمِّلت كل مصاريف تلك المهرجانات على الميزانية التونسية، في حين كان
التونسيون يعانون ضيقًا شديدًا بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية والجفاف، مما استفز مشاعر
الشعب، ونمَّى الحماس الوطني بين صفوفه؛ فعاد الحزب الدستوري للنشاط وعقد سنة
1351هـ، 1933م مؤتمره بنهج الجبل، تم فيه دخول فريق جريدة العمل التونسي، الفرنسية
اللسان، إلى الحزب وانتخاب الحبيب بورقيبة والبحري قيقة عضوين في لجنته التنفيذية. وفي
السنة نفسها أثيرت مسألة التجنيس وفُتح بابه على مصراعيه، فشنت الصحف الوطنية
حملات شديدة على تلك السياسة، وعمل الشعب على منع دفن المتجنسين في مقابر المسلمين
تنفيذًا لفتوى الشيخ إدريس بعدم جواز دفنهم بها، فسقط شهداء وجرحى في المصادمات
مع أعوان السلطة.
بيد أن الخلافات سرعان ما ظهرت في اللجنة التنفيذية
للحزب الدستوري مع الشبان من جماعة العمل التونسي، وتطورت بسرعة إلى القطيعة. فعقد
المنشقون مؤتمرًا بقصر هلال في 16/12/1352هـ، 2/3/1934م، وشكلوا ديوانًا سياسيًا لحزب دستوري جديد، انتخبوا لرئاسته محمود الماطري ولأمانته العامة الحبيب
بورقيبة. وقد سلك هذا الحزب منهجًا مختلفًا، في النضال ضد الاستعمار، عن المنهج
الذي كان يسلكه الحزب الدستوري القديم، تمثل في الاتصال بالجماهير العريضة وكسب
الطبقة العاملة بضم الحركة النقابية تحت قبضته. فخاض الإضرابات، ونظم المظاهرات
الشعبية. ومع ذلك دخل في المفاوضات مع فرنسا منذ نشأته الأولى. فمن ذلك أنه
فاوض حكومة الجبهة الشعبية الفرنسية سنة 1355هـ، 1936م، ودعا إلى مظاهرة
8/2/1357هـ، 9/4/1938م التي سقط فيها العشرات من الشهداء والجرحى، واعتقل على إثرها أعضاء
الديوان السياسي جميعًا، وأُعلنت حالة الحصار.
وفي عام 1356هـ، 1937م عزم الشيخ الثعالبي على العودة
إلى تونس، فاستقبله الديوان السياسي وحاول احتواءه. لكن الشيخ سرعان ما
أعاد علاقاته مع أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري القديم، بعد فشل محاولات
الإصلاح بين الجانبين التي قام بها من أجل إعادة توحيد الحزبين الدستوريين.
الحرب العالمية الثانية:
عندما نشبت الحرب العالمية الثانية سنة 1358هـ، 1939م كان أعضاء الديوان السياسي
وعدد كبير من مناضلي الحزب في السجون والمنافي، ومالبثت قوات المحور أن احتلت تونس
في ذي القعدة 1361هـ، نوفمبر 1942م بعد بضعة أشهر من تولي محمد المنصف باي العرش (1361ـ1362هـ). وقد سلك هذا الباي سياسة وطنية تمثلت في
محاولة الحفاظ على موقف الحياد بين المتحاربين، وتكليف
محمد شنيق بتشكيل حكومة وطنية شارك فيها ممثلون عن
الحزبين الدستوريين. وقد شهدت الحركة الوطنية في عهده انتعاشة، فعُقدت الاجتماعات
السياسية العلنية، وأصدر الحزب الدستوري الجديد مجلة
إفريقيا الفتاة
وأطلق سراح معظم الوطنيين المعتقلين بتونس. كما أطلقت القوات
الألمانية الحبيب بورقيبة ومن كان معه من أعضاء الديوان
السياسي في سجن حصن سان نيكولا بفرنسا سنة 1362هـ،
1943م، وأحسنت روما استقباله، وطلبت منه أن يستخدم نفوذه لدعوة الشعب التونسي إلى
التعاون مع المحور، لكنه اشترط مقدمًا إعلان استقلال تونس فلم تقبل، وسمحت له بالعودة
إلى تونس.
عندما احتل الحلفاء البلاد التونسية في جمادى الأولى
1362هـ، مايو 1943م، اتخذ المقيم العام الفرنسي إجراءات انتقامية تمثلت في خلع
محمد المنصف باي بتهمة التعاون مع المحور، فنفي إلى الصحراء الجزائرية ثم إلى فرنسا
حيث توفي سنة 1367هـ، 1948م، وسيق الوطنيون بالجملة إلى ساحات الإعدام بنفس التهمة.
الأمر الذي جعل بورقيبة يغادر البلاد خفية إلى القاهرة، وكان عدد من
الدستوريين قد سبقوه إليها وإلى دمشق، ورغبة في الاستعانة بالدول العربية المستقلة وجامعة
الدول العربية الحديثة النشأة من أجل خدمة القضية التونسية.
نشط الوطنيون التونسيون في مكتب المغرب العربي الذي
تشكل بالقاهرة برئاسة الأمير عبد الكريم الخطابي. وفي تونس كانت قد بدأت الحركة
النقابية الوطنية تعيد تنظيم صفوفها خارج إطار النقابات الفرنسية، حتى تم بناء الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1364هـ، 1945م، وتولى
أمانته العامة فرحات حشاد.
كما انعقد مؤتمر وطني جمع كل الاتجاهات السياسية ليلة
27 رمضان 1365هـ، 23/8/1946م عرف بمؤتمر ليلة القدر، وتقرر فيه سقوط نظام
الحماية والالتزام بمبدأ المطالبة بالاستقلال التام، وذلك قبل أن يتمكن
أعوان السلطة الاستعمارية من اقتحام مقر الاجتماع والقبض على الحاضرين. وقد تلا ذلك
توتر الحالة السياسية والاجتماعية بالبلاد. وأظهر فرحات حشاد تعاونًا واسعًا
مع صالح بن يوسف، الأمين العام للحزب الدستوري الجديد والذي تولى قيادة الحزب
في غياب رئيسه بورقيبة، فنظم اتحاد الشغل عدة إضرابات منها إضراب عمال شركة صفاقس -
قفصة في 20/9/1366هـ، 5/8/1947م الذي سقط فيه عدد من الشهداء والجرحى. مما دفع فرنسا
إلى تغيير المقيم العام ماست بجان مونص، الذي جاء بسياسة جديدة تعتمد
اللين، فأصدر برنامج إصلاحات قامت حكومة مصطفى الكعاك على أساسها، لكن مقاطعتها من
قبل القوى الوطنية، وعدم رضى المستوطنين عن سياسة المقيم العام أدت إلى سقوطهما
معا. وقد كان لطلبة جامع الزيتونة بقيادة
لجنة صوت الطالب، التي تشكلت سنة 1368هـ، 1949م، دور كبير
في المسارعة بذلك.
وفي سنة 1369هـ،1950م عينت فرنسا لويس بيريي مقيمًا
عامًا جديدًا، فاعترف بالحزب الدستوري الجديد وتشكلت حكومة محمد شنيق التفاوضية على
أساس تصريح وزير الخارجية روبار شومان، ومفاده أن الاستقلال الذاتي هو الغاية
السياسية التي تسعى فرنسا لتحقيقها بالنسبة لجميع الدول التي تؤلف الاتحاد
الفرنسي ومن بينها تونس. وهو التصريح الذي أعلن بورقيبة عن اغتباطه به، وشارك صالح
بن يوسف ممثلاً للحزب في حكومة شنيق على مقتضاه. وقدم بورقيبة برنامجًا من سبعة
مطالب لتكون أساسًا للمفاوضات، وهو برنامج لايمس مبدأ الحماية الفرنسية،
ويقتصر على المطالبة بإلغاء جميع مظاهر الإدارة المباشرة فقط واحترام السيادة
التونسية.
تبنت حكومة شنيق، وكذلك الباي محمد الأمين
(1362-1376هـ) برنامج بورقيبة، لكن الحكومة الفرنسية انقسمت إزاءه ثم مالبثت أن رفضته تحت
ضغط المستوطنين، وقطعت المفاوضات بإصدارها مذكرة 14/4/1371هـ، 15/12/1951م،
التي أكدت تمسكها بمبادئ السيادة المزدوجة والتبعية غير المحدودة والصلات
الأبدية التي تربط مصير تونس بفرنسا. وعندها تأزم الموقف وسعت حكومة شنيق لعرض
القضية على هيئة الأمم المتحدة، وعينت فرنسا السفاح الجنرال دي هوتكلوك مقيمًا عامًا
بتونس، فافتتح سياسته باعتقال أعضاء الحكومة وأعضاء الديوان السياسي يوم
20/4/1371هـ، 18/1/1952م. فرد الشعب على
تلك السياسة ببدء الكفاح المسلح، وأعلنت سلطات
الاحتلال حالة الحصار، وبدأت سياسة القبضة الحديدية. كما شكل المستوطنون عصابة اليد
الحمراء الإرهابية وتواطأت معها السلطة، فكان من ضحاياها الزعيمان فرحات حشاد سنة
1372هـ، 1952م والهادي شاكر سنة 1372هـ، 1953م. رد التونسيون على ذلك بقتل قائد العصابة نفسه الكلونيل دي لابيون
في السنة
التالية 1374هـ، 1954م. وفي سنة 1374هـ، 1954م ازدادت عمليات جيش التحرير التونسي ضراوة وانتشارًا في
الأرياف والمناطق الجبلية، كما تكثفت عمليات الفدائيين
بالمدن فتفشت ظاهرة تفجير القنابل وتصفية الخونة
وغلاة المستوطنين. فعينت فرنسا فوازار مقيمًا جديدًا، وتشكلت حكومة محمد صالح
المزالي، وأعلنت إصلاحات فوازار ـ المزالي التي أكدت تشبث فرنسا بمبدأ السيادة المزدوجة
المرفوض.
بيد أن تفاقم الوضع بالبلاد التونسية وهزيمة فرنسا
بالهند الصينية، وتحول موقف هيئة الأمم المتحدة لصالح القضية التونسية، كل ذلك دفع
رئيس الوزراء الفرنسي منديس فرانس لزيارة تونس في 30/11/1373هـ، 31/7/1954م
وإعلانه أمام الباي عن قبول حكومته بمبدأ الاستقلال الذاتي لتونس، وتعيين الجنرال دي
لاتور مقيمًا عامًا جديدًا، فتشكلت حكومة الطاهر بن عمار بمشاركة ثلاثة وزراء من
الحزب الدستوري الجديد قصد إجراء المباحثات اللازمة. وفي تلك الأثناء اندلعت
الثورة الجزائرية مما أكد على فرنسا بضرورة حل المسألة التونسية، فأصدرت بلاغًا
مشتركًا مع الحكومة التونسية يدعو مقاتلي جيش التحرير التونسي إلى تسليم أسلحتهم في
مقابل ضمانات كافية. وأعلن بورقيبة من منفاه عن قبولها داعيًا بدوره لتسليم
الأسلحة، فكانت تلك بداية خلافه مع الأمين العام لحزبه صالح بن يوسف، الذي اعترض على مبدأ
التسليم قبل الاتفاق على مسألة الاستقلال.
وفي فرنسا خلفت حكومة إدجار فور حكومة منديس فرانس في
9/6/1374هـ، 5/2/1955م، فدعا هذا الأخير بورقيبة، وأصدرا معا تصريحًا مشتركًا
يقيد الطرفين بحل وسط يؤكد تصريح 31 يوليو بخصوص الحكم الذاتي مع النص على احتفاظ
فرنسا بشؤون الخارجية والدفاع. فسارع ذلك بوضع تفصيلات اتفاقيات
11/10/1374هـ، 3/6/1955م التي منحت تونس
الاستقلال الذاتي مع كثير من التحفظات، الأمر الذي
جعل صالح بن يوسف يرفض تلك الاتفاقيات، ويعتبرها خطوة إلى الوراء. فانقسم الحزب
الدستوري الجديد إلى شقين متصارعين. استطاع بورقيبة حسم الصراع لصالحه بفضل
المساندة التي لقيها من الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة الحبيب عاشور، ومن فرنسا
التي قبلت مراجعة الاتفاقيات معه والتسليم لتونس بالاستقلال التام بموجب إعلان
7/8/1375هـ، 20/3/1956م.
تونس بعد الاستقلال
كلف محمد الأمين باي الحبيب بورقيبة، رئيس الحزب
الدستوري الجديد، برئاسة الوزراء في 4/10/1375هـ، 15/4/1956م. وفي الشهر نفسه
اجتمع المجلس التأسيسي المنتخب لوضع دستور البلاد، وقد صدر الدستور فعلا في
24/12/1378هـ، 1/6/1959م، فانتخب بعد خمسة أشهر مجلس الأمة. وكان المجلس التأسيسي قد قرر في
28/12/1376هـ، 25/7/1957م إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، وسلَّم بورقيبة
مقاليد رئاسة الجمهورية، وأعيد انتخابه إلى أن استنفذ دوراته القانونية ثم نودي به
رئيسًا مدى الحياة. واستمر عهده إلى أن خلفه وزيره الأول زين العابدين بن علي في
16/3/1408هـ، 7/11/1987م.
وقد أولى بورقيبة اهتمامه باستكمال السيادة التونسية
وبناء دولة عصرية، فبدأ في هذا المجال متأثرًا إلى حد بعيد بثقافته الفرنسية، بل
وكان معجبًا بما حققه مصطفى كمال أتاتورك في تركيا من قبله فتأثر به. ومن إنجازاته
توحيد القضاء وإصدار القوانين اللازمة، وأبرزها
مجلة الأحوال الشخصية (1377هـ، 1957م)، ونشر
الخدمات الصحية، ونشر التعليم وتوحيده (1377هـ،
1958م)، وقد أدى ذلك إلى إلغاء التعليم الزيتوني.
لكن النتائج التي حققتها تونس في هذه الميادين كانت
مهمة، وخاصة برنامج التنظيم العائلي الذي حقق خفض نسبة التزايد السكاني إلى ما دون
كل النسب المسجلة في بقية الدول العربية. وفي سنة 1377هـ، 1957م نفسها تم جلاء
الجيوش الفرنسية عن كامل البلاد التونسية ما عدا بنزرت وأقصى الجنوب، وذلك على
إثر عدوان فرنسي على قرية ساقية سيدي يوسف على الحدود الجزائرية. وتحقق الجلاء
الكامل سنة 1383هـ، 1963م، بموجب اتفاق مع فرنسا على إثر معارك 1381هـ، 1961م.
السياسة الخارجية:
تعاونت تونس مع الثورة الجزائرية. بحيث
وفرت قاعدة انطلاق لمجاهدي جيش التحرير، وآوت
الحكومة المؤقتة مئات الآلاف من اللاجئين الجزائريين إلى أن تم للجزائر استقلالها.
وكذلك حضور الحزب الدستوري الحاكم مؤتمر طنجة سنة 1377هـ، 1958م إلى جانب حزب
الاستقلال المغربي وجبهة التحرير الجزائري، ومشاركته في وضع مقررات المؤتمر الداعية إلى
قيام وحدة فيدرالية بين دول المغرب الثلاث. بيد أن مسارعة الحكومة التونسية
للاعتراف بدولة موريتانيا سنة 1382هـ، 1962م أدخل فتورا في علاقاتها مع المملكة المغربية.
انضمت تونس إلى هيئة الأمم المتحدة سنة 1376هـ، 1956م،
وتميزت علاقاتها مع هذه المنظمة ومع مختلف دول العالم بالاعتدال ومناصرة قضايا
التحرر في إفريقيا وآسيا. وارتبطت تونس بعلاقات سياسية واقتصادية أمتن مع فرنسا خاصة ودول السوق
الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية عامة. كما انضمت إلى جامعة الدول العربية سنة
1377هـ، 1958م.
كانت لبورقيبة مشكلات مع الرئيس عبد الناصر تعود إلى
سنة 1385هـ، 1965م، بسبب إيوائه وتأييده لصالح ابن يوسف، ولم تتحسن العلاقات
بينهما إلا بمبادرة عبدالناصر إبان معركة بنزرت سنة 1381هـ، 1961م، وأثناءها تم
اغتيال ابن يوسف بألمانيا. ثم ما لبثت علاقات تونس أن انقطعت مع مصر وسوريا والعراق سنة
1385هـ، 1965م، على إثر تصريح بورقيبة بموقفه من القضية الفلسطينية في خطاب
أريحا، ودعوته الفلسطينيين لعقد سلام مع إسرائيل على أساس الاعتراف المتبادل وتطبيق
مشروع تقسيم 1367هـ، 1947م.
استمرت علاقات تونس مع الدول العربية بعد ذلك مستقرة
خلال السبعينيات والثمانينيات، مما أسهم في ترشيح العاصمة التونسية كي
تكون مقرًا لجامعة الدول العربية سنة 1399هـ، 1979م على إثر قرار سحب المقر من
القاهرة بعد توقيع الرئيس السادات معاهدة السلام مع إسرائيل. واستمرت الحالة
كذلك إلى أن عاد المقر إلى القاهرة من جديد سنة 1411هـ، 1990م.
تونس الاشتراكية والاقتصاد الحر:
بعد أن تحقق الجلاء الزراعي سنة 1384هـ، 1964م باسترجاع الأراضي التي كانت بحوزة
الأجانب. سلكت تونس تجربة الاقتصاد الموجه على إثر تبني الحزب الحاكم للاشتراكية
وتسميته بالحزب الاشتراكي الدستوري سنة 1383هـ، 1963م. وقد قاد التجربة
الاشتراكية كاتب الدولة للتصميم والمالية آنذاك والنقابي السابق أحمد بن صالح، فوضع
مخططًا إنمائيًا عشريًا، وألزم الفلاحين والتجار بنظام التعاضد، وجلب القروض
الأجنبية. لكن قبل انتهاء فترة المخطط أعلن بورقيبة، سنة 1389هـ، 1969م، عن وصول البلاد إلى
حالة الكارثة، فسجن ابن صالح وفريقه، وتقرر العودة إلى الاقتصاد الحر القائم على
تشجيع المبادرة الفردية والخصخصة.
وتجدر الملاحظة بأن مشاريع صناعية كبيرة قد تمت في مدة
ابن صالح، منها: مصنع تكرير النفط ببنزرت، ومصنع الفولاذ بمنزل بورقيبة،
ومصنع تكرير الفوسفات والحامض الفوسفوري بصفاقس، ومصنع تركيب السيارات بسوسة، ومصنع
عجين الحلفاء بالقصرين. كما بدأت انطلاقة الاستثمارات السياحية، ببناء الفنادق
وتهيئة المناطق السياحية الرئيسية. وقد توسعت هذه المشاريع في مدتي تولي
الوزيرين الأولين الهادي نويرة ومحمد المزالي، ومن أهم ما سُجل: توسع صناعة النسيج
والملابس الجاهزة بسبب ما جاء به قانون 1394هـ، 1974م من تشجيع للمستثمرين الأجانب
على إقامة مشاريع، ومنها ما قام في إطار الشراكة بين رجال أعمال تونسيين وأجانب في
مجال الصناعات التصديرية، مما أسهم في توفير فرص عملٍ كثيرة للشبان، وللعنصر
النسائي منهم بالخصوص، علمًا أن الشبان يمثلون أكثر من نصف سكان البلاد.
بيد أن الفلاحة ظلت تمثل النشاط الرئيسي للتونسيين
والمصدر الرئيسي للثروة بالبلاد، ونخص بالذكر إنتاج الحمضيات بالوطن القبلي،
والزيتون بالساحل وصفاقس، والقمح بحوض مجردة، والتمور بالجريد وقبلي، والبقول في
البيوت المحمية بالساحل والوطن القبلي خاصة.
وقد شهدت النشاطات الفلاحية تحسنًا ملموسًا من حيث: تحديث
الأساليب ونمو الإنتاج، نظرًا للمبادرة الفردية والإرشاد والتوسع في منح القروض، مما وفر
فائضًا مهمًا من حيث الكم والكيف والتنوع للتصدير. وكذلك الحال بالنسبة لقطاع الصيد
البحري الذي شهد أسطوله تطورًا خاصة على الساحل الشرقي. أما تربية الماشية، فرغم ما
بذل فيها من
جهد، فإن منتجاتها من الحليب ومشتقاته واللحوم مازالت لا تسد حاجة السوق المحلية التي تشهد بدورها
ارتفاعًا متواصلاً في الطلب. ويسهم جزء مهم من المنتجات
السالفة الذكر في توفير المواد الأولية الضرورية
لصناعات غذائية مختلفة، منها ما يوجه للتصدير كتجفيف التمور وتجميد الأسماك.
بيد أن سياسة الاقتصاد الحر لم تق تونس من التعرض
لهزات ذات طابع اقتصادي واجتماعي، فضلاً عن الأزمات السياسية التي شهدتها
البلاد بسبب نظام الحزب الواحد الذي اتبعه الرئيس بورقيبة في معظم فترة حكمه، وتفاقم
البطالة بين الشباب بما فيه الشباب المتعلم. ومن أهمها أحداث 26/2/1399هـ،
26/1/1979م التي بدأت بإعلان الاتحاد العام التونسي للشغل للإضراب العام. وانتهت بوقوع
مصادمات في شوارع تونس العاصمة بين قوى الأمن والجيش والجماهير، سقط فيها قتلى وجرحى،
تلاها إعلان حالة الطوارئ واعتقالات في صفوف القيادات النقابية وصدور أحكام
بالسجن في حقهم. وأخطر منها أحداث 29/3/1404هـ، 3/1/1984م التي عمت البلاد التونسية، وكان سببها
المباشر الزيادة المرتفعة في أسعار عدد من المواد الاستهلاكية
الأساسية، وقد حدثت فيها مظاهرات ومصادمات بين الجماهير وأعوان السلطة اقتضت إعلان حالة
الطوارئ أيضًا ومنع التجول.
اتجه الرئيس بورقيبة في آخر عهده لإعادة التعددية
الحزبية؛ فأجاز لثلاثة من التنظيمات العاملة على الساحة السياسية بالنشاط
العلني، لكنه اتخذ تلك الخطوة بعدما شهدت البلاد عددًا من المحاكمات السياسية، وتميزت آخر
سنوات حكمه بمحاكمات قيادات عناصر الاتجاه الإسلامي. توفي بورقيبة عام 1999م.
تونس العهد الجديد:
. شهدت الحياة السياسية انفراجًا إثر تولي
الرئيس زين العابدين بن علي الحكم سنة 1408هـ،
1987م، بما احتوى عليه البيان الذي أذاعه صبيحة التحول. أعقب ذلك إفراجه عن المعتقلين
السياسيين من مختلف الاتجاهات، وإلغاء محكمة أمن الدولة، وإعادة الاعتبار لكافة وجوه
الكفاح الوطني ومنهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي وصالح بن يوسف نفسه، ومنح رخص
النشاط العلني لأربعة تنظيمات سياسية أخرى.
في بداية العهد الجديد جرى تعديل الدستور، فألغيت
المادة التي نصت على أن تكون رئاسة الدولة مدى الحياة، وشكل مجلس دستوري من أجل
ضمان دستورية القوانين والتفاف كافة التنظيمات والأحزاب الوطنية حول الميثاق الوطني.
وكان لزين العابدين بن علي الذي انتخب مرتين متتاليتين
رئيسًا للجمهورية دورًا رئيسيًا في دفع عملية الإصلاح الإداري ومحاولة دفع
عجلة التنمية الشاملة.
وعلى المستوى الخارجي شهدت علاقات تونس على المستوى
المغاربي خاصة نشاطًا ملحوظًا في عهد الرئيس زين العابدين بن علي، تمثل
أولاً في تحسين علاقاتها مع ليبيا، ودخولها تجربة اتحاد دول المغرب العربي إلى
جانب الجزائر وليبيا والمغرب وموريتانيا. ولو أن مسار هذا الاتحاد قد تأثر
بالمشكلات التي أصابت كلاً من ليبيا في علاقاتها الخارجية مع المغرب، والجزائر في سياستها
الداخلية.
الثورة التونسية
في يوم الجمعة 17 ديسمبر من عام 2010 قام شاب تونسي يُدعى محمد البوعزيزي وهو من العاطلين عن العمل بإضرام النار في نفسه
احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بو زيد لعربة يبيع عليها الفاكهة والخضار، وللتنديد برفض
سلطات المحافظة قبول شكوى أراد تقديمها في حق الشرطية فادية حمدي وأدى ذلك إلى اندلاع مواجهات بين مئات من الشبان في
منطقة سيدي بوزيد وولاية القصرين مع قوات الأمن يوم السبت 18 ديسمبر 2010 خلال مظاهرة للتضامن مع البوعزيزي والاحتجاج على ارتفاع نسبة البطالة والتهميش والإقصاء
في هذه الولاية الداخلية، وانتهت الاحتجاجات باعتقال عشرات الشبان وتحطيم بعض
المنشآت العامة. وتوسعت دائرة الاحتجاجات بولاية سيدي بوزيد لتنتقل الحركة الاحتجاجية من مركز الولاية إلى البلدات
والمدن المجاورة كالمكناسي والرقاب وسيدي علي بن عون ومنزل بوزيان و القصرين وفريانة، حيث خرج السكان في مسيرات حاشدة للمطالبة بالعمل وحقوق المواطنة والمساواة
في الفرص والتنمية، وقد تطورت الأحداث بشكل متسارع وارتقت الاحتجاجات لتأخذ طابع
سياسي ومطالبة الشعب بتنحي الرئيس بن علي عن منصبه وبالحريات ومحاسبة العابثين بالأموال العامة والتحقيق بقضايا الفساد.
بعد مغادرة بن علي إلى السعودية في 14 يناير 2011 أعلن الوزير الأول محمد الغنوشي عن توليه رئاسة الجمهورية بصفة مؤقتة وذلك بسبب تعثر
أداء الرئيس لمهامه وذلك استنادًا على الفصل 56 من الدستور التونسي والذي ينص على أن لرئيس الدولة أن يفوض الوزير الأول
في حال عدم تمكنه من القيام بمهامه، غير أن المجلس الدستوري أعلن إنه بعد الإطلاع على الوثائق لم يكن هناك تفويض
واضح يمكن الارتكاز عليه بتفويض الوزير الأول وإن الرئيس لم يستقل، وبما
أن مغادرته حصلت في ظروف معروفة وبعد إعلان الطوارئ وبما أنه لا يستطيع القيام بما
تلتزمه مهامه ما يعني الوصول لحالة العجز النهائي فعليه قرر اللجوء للفصل 57 من
الدستور وإعلان شغور منصب الرئيس، وبناءً على ذلك أعلن في يوم السبت 15 يناير 2011 عن تولي رئيس مجلس النواب محمد فؤاد المبزع منصب رئيس الجمهورية بشكل مؤقت وذلك لحين إجراء انتخابات
رئاسية مبكرة خلال فترة من 45 إلى 60 يومًا حسب ما نص عليه الدستور. وقد تم في يوم 17 يناير تشكيل حكومة جديدة برئاسة الوزير الأول محمد الغنوشي شارك بها عدد من زعماء المعارضة،
وأعلن الغنوشي إن الحكومة ستعمل بعيدًا عن الأحزاب السياسية، كما أعلن عن حاجة الحكومة إلى
ستة أشهر على الأقل قبل إجراء الانتخابات العامة، كما أكد على التزام حكومته
بالإفراج عن السجناء السياسيين وتشكيل لجنة لتقصي الحقائق ومحاربة الفساد السياسي
والتجاوزات والتحقيق مع أصحاب الثروات الهائلة أو المشتبه في فسادهم. و قد أطاح الشعب بهذه
الحكومة وقد تم إعادة تشكيلها في 27 جانفي/يناير وقد قدم الوزير الأول محمد
الغنوشي يوم 27 فيفري/فبراير استقالته أمام القنوات التلفزية في نقل مباشر وقد
أوكل الرئيس التونسي المؤقت فؤاد المبزع الوزير المتقاعد الباجي قائد السبسي في
عهد الرئيس السابق الحبيب بورڨيبة بتشكيل حكومة جديدة وقد شكلها وترأسها في يوم 7
مارس 2011.
تعليقات
إرسال تعليق